فرنسا والعرب.. مرحلة جديدة في عالم متغير/ إميل أمين

  • شكلت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، محطة جديدة في مسار العلاقات الفرنسية – العربية تلك التي بدأت قبل ثلاثة عقود، وبالتحديد في زمن الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر، واستمرت حتى الساعة، حتى وإن لم تكن مراحلها جميعا صفاء رخاء، صفاء زلالا، غير أن المقادير سارت في اتجاهات مزدوجة من العرب إلى فرنسا ومن فرنسا إلى العرب، وحتى قبل العصور الحديثة، كان العرب يطلقون على البحر الأبيض المتوسط، لفظ البحر الكبير، الذي يفصلهم عن الفرنجة.

يعن للقارئ أن يتساءل لماذا تكتسب رحلة الرئيس ماكرون هذه المرة أهمية خاصة؟

الشاهد أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفعنا في طريق هذا القول، لاسيما أن المشهد الدولي يعيد فرنسا من جديد إلى بؤرة الأضواء أوروبيا وعربيا.

يمكن القطع أن فرنسا تبقى عقل أوروبا السياسي المفكر النابض، حتى وإن كانت ألمانيا قاطرتها الاقتصادية، ولفرنسا مواقف واضحة من منطقة الخليج العربي على وجه التحديد، تلك التي اختلفت فيها عن الولايات المتحدة الأميركية قبل نحو ثلاثة عقود.

ولعله من مفارقات القدر أن فرنسا تقبل من جديد على إحياء علاقاتها مع دول المنطقة، في الوقت الذي تدبر فيه الولايات المتحدة، والتي تشير كل الدلائل إلى أنها لم تعد مهمومة أو محمومة بالشرق الأوسط، مهما ادعت خلاف ذلك، لاسيما أن الأمر لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح فواشنطن لديها تحد كبير وخطير شرق آسيا، متمثلا في الصين تارة، وروسيا تارة أخرى، هناك حيث الفخاخ المنصوبة لبكين في تايوان، ولموسكو في أوكرانيا.

لم تكن فرنسا في واقع الحال بعيدة عن أزمات الشرق الأوسط، في العقد الماضي، وفي الأعوام الأخيرة شاركت بقوة في احتضان العديد من المؤتمرات الخاصة بالعالم العربي، مثل مؤتمر بغداد لدول جوار العراق، عطفا على عدد من المؤتمرات الخاصة بليبيا حيث الأزمات المتتالية والتي لا يبدو أنها سوف تنتهي في القريب.

لعبت فرنسا دورا مهما في دعم وعون الدول العربية الساعية في مواجهة ومجابهة الإرهاب والتطرف، وليس سرا أنها كانت صديقا صدوقا لمصر المحروسة في أوقات حرجة، وحين كانت مصر ساعية للخلاص من ربقة الجماعات الظلامية، وهو دعم يذكره العرب عن بكرة أبيهم وليس مصر فقط لفرنسا.

تجيء الزيارة إلى دول الخليج العربي والعالم والمنطقة في حالة سيولة جيواستراتيجية، وبخاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الأمر الذي يفتح الأبواب على العديد من السيناريوهات، والتي من بينها المخاوف من عودة شبح الإرهاب وصحوة الإرهابيين مرة أخرى، هذا حال أخفقت طالبان في قيادة البلاد، ومن الممكن بالتعاون الخليجي – الأوروبي، أن تكون هناك فرص قائمة وقادمة لانتشال أفغانستان والأفغانيين من وهدة التطرف والغلو، وهنا يمكن للدبلوماسية الفرنسية أن تلعب دورا واضحا ومميزا.

ولعله من بين المواقف المتقدمة لفرنسا في واحدة من أهم بل أخطر الأزمات في المنطقة، موقفها من المعضلة الإيرانية، تلك التي تتجذر يوما تلو الآخر في المنطقة، وقد جاءت محادثات فيينا الأيام القليلة الماضية لتختصم من أي آمال في التوصل إلى رؤية سلمية، الأمر الذي يتسق والنوايا الحقيقية الإيرانية، تلك الساعية إلى تسويف الوقت وحيازة القنبلة النووية، وهو ما اعترف به أحد أركان النظام الإيراني السابقين مؤخرا.

يذكر للرئيس الفرنسي ماكرون قوله إنه: “لا نجاح لأي اتفاق نووي جديد مع إيران من غير التنسيق مع المملكة العربية السعودية، وإن استبعاد المملكة في اتفاق عام 2015، إنما كان خطا جسيما”.

هل تدرك فرنسا بنوع خاص النوايا الإيرانية بشكل أفضل من الولايات المتحدة الأميركية؟

من الواضح أن إدارة بايدن سوف تستفيق مؤخرا من أوهام التفكير في اتفاق جديد مع الملالي، وستفاجأ بوصول إيران إلى العتبة النووية، بل إلى وضع خاص في الخليج العربي، تسعى من خلاله إلى بسط هيمنتها بالقوة على بقية الأرجاء، وهو ما أدركته فرنسا وتدركه من خلال تجارب حية عاشتها وخبرت من خلالها تطرف المواقف الإيرانية.

في مارس من عام 2018 وحين ذهب وزير الدفاع الفرنسي وقتها، جان إيف لودريان، إلى طهران للتباحث في الملف الصاروخي الإيراني، حمله الإيرانيون ردا واضحا، جاء كالتالي: “سنتخلى عن برنامجنا الصاروخي، حيث تتخلى لندن وباريس وواشنطن عن صواريخها”، وهو جواب حمل الفرنسيين على التفكير في الأكلاف التي سيتوجب دفعها من جراء تلك الصواريخ الإيرانية، لاسيما إذا تم تحميلها برؤوس نووية.

تأتي فرنسا اليوم إلى الشرق الأوسط والخليج العربي بحثا عن إحياء صداقات قديمة، وتعزيز شراكات جديدة، وبخاصة في ظل أزمات تواجهها على المستوى الدولي، وليس آخرها صفقة الغواصات الأسترالية التي تسببت في هزة داخلية عميقة، ومخاوف من تقلص الدور الدولي الفرنسي على الصعيد العالمي.

على أن هناك جانب آخر من جوانب المشهد الفرنسي لا ينبغي إهماله، ذلك أنها موطن التنوير وموطئ أقدام فلاسفة الإنسانية، واليوم وفي ظل الرؤى التنويرية العربية، والمحاولات الجادة للإصلاح على صعيد البشر قبل الحجر، تبقى فرنسا مرشحة لشراكة فكرية قبل المادية، وعلى أهمية الأخيرة.

ماكرون يستهل خطاب جديد، ويحاول كسب دور فاعل لبلاده، وهو أمر مرحب به طالما هناك مصالح عربية – فرنسية متبادلة.