تحيّة إلى ولاتة صاحبة الصّمت البليغ بقلم د. منوّر خميلة

أخي… أيّها الأنا في ثوب آخر

– انظر ولاحظ وتأمّل، إنّك في رحاب ولاتة حيث اتّفق الزّمان والمكان على إقامة صرح يمجّد انتصار الإنسان على الطبيعة وإصراره على قطع خطوات حاسمة نحو اكتمال إنسانيّته عبر تعزيز شبكة تواصله مع الآخر وخلق جوارات خصبة (des voisinages fertiles ) للتّثاقف والإثراء المتبادل بين شعوب وقبائل عملت الأيّام على جمع أشتاتها في فضاء اجتماعي – ثقافيّ فذّ أصرّ فيه الماضي على أن يبقى دائم الحضور يقدّم للخلف مآثر سلفه الصّالح علما وعملا.

– انظر ولاحظ وتأمّل إنّك أمام مَعْلَمٍ يذكّرك بتعريف الأثر الفنّيّ على أنّه “صمتٌ يتكلّم وكلامٌ يَسْمَعُ” (L’œuvre d’art est un silence qui parle et une parole qui écoute ).

وإنّ هذا التعريف لَيُحفّزك على حسن الإصغاء إلى ولاته في صمتها البليغ: هذه القلعة الصّامدة تعطيك مفاتيح الولوج إلى أسرار عظمتها، فالكلمات بمنطوقها ومكتوبها، والصور بأشكالها وألوانها، والأشياء بمصادرها ووظائفها تبعث رسائل وإيحاءات تعبّر عمّا عرفتْه هذه المدينة من حركيّة دؤوب وحيويّة فيّاضة قرّبت البعيد وأثْرت المشهد الحضاريّ ونوّعت مجالات العيش المشترك القائم على أساس الأخذ والعطاء وانصهار البعض في الكلّ ليولّد ضربا من الوحدة في التّنوّع (L’unité dans la diversité).

– انظر ولاحظ وتأمّل بأيّ سلاسة يسّرت ولاته لأهلها هذه النّقلة العجيبة من ضيق الأناإلى شساعة النَّحْنُ، وكيف تجلّى هذا التّحوّل في التّراث الثّقافيّ الماديّ واللّامادّيّ لهذه المدينة ليشمل المعمار والملبس والمأكل والعادات والتّقاليد والمعارف والمهارات وغيرها من مجالات تفاعل الإنسان مع الطبيعة والتّاريخ.

– انظر ولاحظ وتأمّل كيف تفتح لك ولاته كتابا يُخْبِرُكَ عن تطوّر الجغرافيا البشريّة للعالم الإسلاميّ (La géographie humaine du monde Musulman) في جزء هامّ من المعمورة، وكيف وقع التّصرّف لإعادة توظيف الموقع المتميّز لولاته من مجرّد محطّة في طريق قوافل التّجارة الصّحراويّة القديمة إلى عاصمة إسلاميّة أسهم التّجّار والعلماء في امتداد إشعاع الرّسالة المحمّديّة الزّكيّة ببلاد السّودان المجاورة عقيدةً ولسانًا وفكرًا وسلوكا لتضمّ أصقاعا وأقواما جديدة ومتجدّدة.

– انظر ولاحظ وتأمّل إنّك في ولاته هذا الرّمز الخالد للأصالة والتّفتّح، يدعوك إلى ضبط هذيْن المفهوميّن المحرّكيْن والمتحرّكيْن ضبطا يمكّنك من تأصيل ذاتك والاعتزاز بماضيك بالقدر الّذي يدفعك نحو المستقبل بعزيمة وثبات وعلوّ همّة لأنّ قطار العولمة لا ينتظر الكسول والمتردّد.

– انظر ولاحظ وتأمّل إنّ ولاته تنتظر منك ومنّي ردّا على رسالتها يليق بمقامها، إنّها تقيّم تفاعل مخاطبها وجدّيّته بمعيار الفعل والإنجاز، وأنّ تصنيف مدينتنا تراثا عالميّا يحمّلنا مسؤوليّة المحافظة عليها وضبط خطّة تنمويّة شاملة ومتكاملة ينخرط الجميع في تصوّرها وإنجازها ومتابعتها وتسخير كلّ الطّاقات لتثمين ما تزخر به ولاته من موارد وإمكانات مادّيّة وبشريّة لتحقيق هذا الهدف الطّموح.

– عشت يا ولاته دائمة الحضور في عقولنا وقلوبنا وسواعدنا تستنهضين الهمم وتشحذين العزائم وتحرّكين السّواكن، وَدُمْتِ نبعًا لا ينضب لأسمى المعاني وأنبل القيم سنظلّ نرتاده كلّما أضنانا العطش وحتّى يبلغ المريد مراده.

ولكِ منّي أيّتها الأمّ الحنون جزيل الشّكر وفائق التّقدير على ما علّمتنيه أيّام إقامتي بين أحضانك فقد كان الوقت قصيرًا والنّفع غزيرًا.

د. منوّر خميلة